الثلاثاء، 9 أغسطس 2016

وأنا أسير

مأمون أحمد زيدان

"1"

      وأنا أسير
على طريق مهجور
همست لي مئذنة
بسر غريب

"2"
عشب يتكسر، يَهُس
تحت خطواتي
يئن، يترنح

"3"
نملة دؤوب
تحمل رزقها
رزق يفوق أضعاف وزنها
تشد الخطى
"4"
أسير
نحلة تزن
تطير، تحط
تمتص رحيقًا
تحث جناحيها نحو قفير

"5"
أسير
سلحلفاة مغطاة بدرع مكسور
تسابق المستحيل
تطل برأسها
يمنة ويسرة
تطيل التأمل، والتحديق
تمد أطرافها
تتنهد نسمة ظل حنون

"6"
أسير
كلب يلهث
لهاث برق خاطف
ورعد قاصف
لعاب يسيل
بطن ضامر، صافق، مصفوق
عينان متجمرتان
تائهتان، ملتهبتان
وحمامة متعفنة بين ألواحِ صبر

"7"
أسير
دودة تخرق الأرض
تمتص الريح والشمس والضياء
تخرق الأرض
تمتص الرطوبة والبلل والماء والظلام
تحط فوقها ذرات من تراب
تغسلها حفرة ماء آسن

"8"
أسير
قط متألق
كنمر صغير
يموء بهمس وخفر
يتمطى فوق غصن لوز
يفرك أنفه بيديه
يتثاءب بكسل
تحت الغصن
بقايا ريش

"9"
أسير
أفعى رقطاء تتلوى
تفوح بحنق مكتوم
تتلع برأس مثلث
تُنَضنِض بلسان مشعب
تتسحب ببطء
على الأرض بقايا من شعر فأر

"10"
أسير
خلد يطل برأسه من حفرة
يختفي، يظهر
يظهر، يختفي
كوم من رمل ناعم
يتوزع فوق مساحات
دهاليز تحت المسافات
تلفها ظلمة دامسة
لا فرق بين ظلام ونور

"11"
أسير
قطيع خراف يسد النظر
عشب متفجر، مكتظ بالألوان
روعة عين ترسم الجمال حياة
يرعى
يشنف الآذان لصوت نايٍ حزين
بفمِ راعٍ يعذبه الجمال
يصلبه النماء
وآماد تحفظ حزن الناي
تسجلها، ترسخها
كبَلُّوط وسِنْدِيان وصَنَوبَر

"12"
أسير
نهر صغير منزوع من جبل
يسير معي
يترجرج، يتقلب، يلتف، يتداخل
يكتب أحرفًا تؤرق العين
يحمل جثثَ نبات ونبات
حيوان وحيوان
طير وطيور
يغني، يشدو
يقرأ، يلقي قصائد
عصية على التدوين
يبكي
يُنَهنهه البكاء والعويل
يخرخر
يغسل ذاته بذاته
يتنشف بشمس وقمر
يتحول لُجَين مخلوط بذهب
في الصباح والمساء
يتدثر بشفق وغسق
يتحول فيروز ولازَوَرْد
يغفو بعينين مضيئتين
يصحو بعينين صافيتين
كجُلَّنار مخلوط بزهر لوز

"13"
أسير
تراب متشقق
من شقوقه تطل براعمُ وتُوَيجات
ناعمة خجولة
كطفل مولود الآن
أنام على بطني
ألصق أذني بالشقوق
أنفاس معذبة، قلقلة، مضطربة
حلقها يابس
كغصن مسكون بالخواء والنمل والحشرات
أُصغي جيدًا
في الأسفل صوت حياة تضج بحياة
أنهر وجداول وغدران
ينابيع وعيون وشلالات
غرقى وغرقى
توشوشني تويجة
لا تقلق
في الصباح يأتي
الندى

"14"
أسير
معي روحي تسير
تبحث، تنقب، تتأمل
قَلِقَ، تقلقَل، تقَضقَض
هموم تتوالد، أحزان تتناسل
شيء يمسك أنفاسي
يَغُلها، يُصفِّدها
يغرس شوكًا ناعمًا فيها
يعذب ويتعذب
مثل أفق متوهج محشو بعتمة
ومثل حمامة تهدل حزنًا
كخلوج حيرى تثغو للصحراء
ألحان شوق واشتياق
وفقدٍ وأسًى
روحي تشير بجمرة متقدة
أرى
أشجار الصفاف تتندى بدموع
تتهدل الأغصان تعبًا وولهًا ولهفة
تغلق الأوراق ذاتها على ذاتها
تنوء السيقان من فرط الوجع
تمتص الرياح صفيرًا ونشيجًا
ألم منقَّع بألم
وعواء ونباح وجواح
هروب وشرود وانشداه
تخلخل، تزحزح، ترجرج، تهدم
توقٌ إلى مجهول وغامض وخفاء

"15"
أسير
روحي تخالفني
في اتجاه مخالف تسير
تقول:
في الاختلاف ائتلاف
في التناقض انفلات من رتابة عمر
كجبل يمس السحاب
يجس الغيم الملقح بالثلج والنار
وادٍ يعلو نحو هضبة
من أجل سنبلة تفترش الهواء والنقاء والمدى
نرجسة تشد بشفتيها على حبة ندى
بكر، كاعب، تنزُّ ولهًا
يَسيل رُضاب مثل قرص شهد
ينقط
تمتصه صبارة حزينة
تتحول رمانًا، كرزًا، لوزًا
وزَنْبقًا
في الاختلاف ائتلاف يا صديقي
روحي تقول:
ليل ونهار
خريف وربيع
ثلج متقد ونار متجلدة
أفق ممتد وشوكة
حبة تين وبركان
زيتونة حبلى وفسائل
صفائح أرض وزلازل
غربة واغتراب
تربة وتراب
وطن مهجور منبوذ
وطن معمور مشدود
ووطن فقط
يسمى، يدعى، يلقب
وطنًا
للدجاجة أرض وبيت ووطن
وللكلب، للذئب، للفأر، للدود، للبعوض أيضًا
أرض وبيت وطن
لنا نحن
قارئُ كفٍّ وفنجان
خُرافة وأسطورة
سحر وساحرات
حجاب وتميمة
للغيب نوافذ وبوابات
تسكنها الوحوش والغيلان
الجن والعفاريت
ويسكنها - يا للغرابة - أحدب موشوم بالخصي والعجز
والجبن والخوف
لكن
في كفيه هرواة غليظة
وله عرش وصولجان
فرعون
ما زال فينا يحيا
يَرتع، يقتات
من لحومنا، دمنا، بؤسنا
عبوديتنا، ذلِّنا، وإذلالنا
هرمًا، قبرًا لخصيِّه وللخصيان
ما زالت الشمس تأكلنا، تنهشنا
تلوحنا، تصوحنا، تقلينا
وما زلنا للمجهول نحيا، كذل يعشق الذل
بركان ينفجر
كي يأكل بركانًا
قطعان من خراف
من غنم وبقر
نركع للذئب، للدب، للعُقبان

"16"
أسير
خطواتي فوق خطوات غيري تسير
ولدتُ يومًا هناك
كنت أنا أناي
وكانت أناي أنا
يوم كان السحاب بين أنامل هارون الرشيد
يوم "رجت الأرض رجًّا"، "وبُسَّت الجبال بسًّا"؛ لامرأةٍ صرخت
بضعف ويأس وخوف:
وا معتصماه!
فكان
"السيف أصدق إنباءً من الكتبِ"
لا شجب، لا استنكار، لا قلق
"في حدِّه الحدُّ بين الجِدِّ واللعبِ"
على شوارع بغداد وُلدت
وفي سُرَّ مَن رأى تربَّيت
لي الآفاق والآماد
كطير يتحول طيرًا
لي البحار والمحيطات
كحوت وقرش وأخطبوط
كسمك يتحول سَمكًا
لي الأرض
ظاهرها وباطنها
لي الشمس والنجوم والفضاء والقمر
لي هوائي وأنفاسي
لي شهيقي زفيري
لي ذاتي
لي أناي
لي الأنا
ولدتُ يومًا هناك
بين سيفين مرصَّعين
بالنور والنار
سيفٍ لله مسلول
وسيفٍ فرَّق بين باطل قاتل
وحق مقتول
بكري، عمري، عثماني، علوي
أموي، معاوي، يزيدي، هشامي،
ولدت يومًا هناك
سلجوقي، أيوبي، عثماني، زنكي
حمداني، أندلسي، بربري كطارق
يطرق الطرقات
يحرق السفن
فيكون الموت والبحر صنوانِ
لم أولد هناك
كنت أنا أناي
كنت أنا الأنا
كنت المأمون
وكان المأمون أنا
كنت أزن العلم بالياقوت والفيروز والذهب
في كفة ميزانٍ كتاب
في الكفة الأخرى نوار نور وهدى
يُقَطر الماء من ملحه
يهديه للأكوان، للأُقْحوان، للصبر والصبَّار
للمخلوقات، للأرض، والصخر والصحراء
زُلال مُصفًّى من زلال
لبن مخمَّر من حليب البلابل والعنادل
من رحم غزالة ويمامة ونعامة
من قلب تفاحة وإجَّاصةٍ وليمونة
من فؤاد زهر اللوز والدِّراق والنَّبق
من دموع عشبة فوق صخرة جرداء
نرسيس ليس أسطورة
نرسيس محض عجز وأكذوبة
في الماء صورتي
أنا كما أنا
في المرآة صورتي
أنا كما أنا
في الظل صورتي
أنا كما أنا
في القيظ والصحراء
فوق القمم، في الهضاب والسهول والسباسب
صورتي
أنا كما أنا
مأمون كنت يومها
مأمون الآن أنا
مأمون ما زلت هنا
أمأمون سأبقى كما كنت
وكما أنا؟!

"17"
وأنا أسير
عشٌّ في قلب شجرة
فيه بيضتان مخروقتان، ممصوتان، مهجورتان
ترقدان فوق سرير من قش مغزول
كلسهما مثل كهف
طائر حول العش يرفرف
ينوح أم يغني؟!

"18"
في الطريق إلى اللاشيء
اللاهدف، الفراغ، التلاشي
كبخار متصاعد
نادتني امرأةٌ مصقولة بالسحر والمساء:
مُدَّ كفك!
قالت:
هنا جرح غائر عميق
دموع يتامى، ثكالى
عصير أسًى ولوعة
وهنا
في هذا الفج من هذا الخط
تربص، تقوس، تردد،
جثث محنطة، شوهها الرماد والرقاد
قوافل في صحراء مفتوحة
تفتح ذاتها على ذاتها
وهنا
في هذه الثنية
بين صخور وكثبان ورمال
وهم يغذَّى من وهم
خيال لِطَيف وطيفٌ لخيال
خيول مخنثة، بغال مجمدة
سهام ورماح وسيوف
أحناها الصدأ والغمد والنسيان
وهنا، هنا. تمامًا هنا
وصمَتَتْ
قلت:
هنا، تمامًا هنا،
مقبرة للصمت

"19"
وأنا أسير
نادتني عشبة خفيفة، لطيفة
همست:
انزع ذاتك من ذاتك
اخرُجْ منك كي تستطيع أن ترى
في الأرض متسع لكل شيء
للشيح والشهد
للحنظل والطلح
للموت والحياة
للحق والباطل
للمقتول والقاتل
للعابد والعاهر
للنجوم والكواكب والشموس والأقمار
لانعكاس صورة السماء
للبحار والجداول والغدران
للصحارى والغابات والأدغال
في الأرض متسع للشيء واللاأشياء
للمجهول والمعلوم
لطحلب وحَلزون وفيل
قلت:
في الأرض متسع للمتسع
لكل شيء وشيء وشيء
لكنها لا تتسع
لدمعة
لضحكة
أو
لرائحة وليد

"20"
قيل لي:
والقول فيه وفيه
قف هنا
توقف عن المسير
كي توقف الرؤى
والغيلان والكوابيس
كي تكون صخرة تحركها الرياح
يحملها الجليد من مكان إلى مكان
رؤية النسور والعقبان والصقور
تجرح الجفن وتُجَمر العيون
اختر بنفسك أن تكون
شجرة قَيْقَب، سَرْو، سِنْديان
أو متسلقة طفيلية
شوكة أو صبار
ازحَف كأفعى، كحرباء، كتنين
وطارِد الغزلان والفراشات
وانظر هناك
هناك أنت تكون
ذرَّة في ريح هوجاء
وذرة في صحراء

"21"
قلت:
سأسير
لتهمس لي المآذن والمساجد والمحاريب
تحت الهلال المطرز بالنحاس
والضياء والوهج والقمر
سأسير
لأحمل التراب بساعدي
وأتنشق الظل البعيد
كي أقول للقيظ في الصحراء
معي قطرات ندًى
مخبأةٌ في الفؤاد المستطير
وكي أفتح للشمس كوات في الغابات
والأدغال والأكمات
وكي أغزل من خيوط الشمس
صورة أمي
صورة أبي
إخوتي وأخواتي
وكي أحملها وأطير
مثل شعاع من وهج متفجر
حيث الوطن هناك
ينتظر الوصول

"22"
سأسير وأسير
أسير، وأسير
بين ليمونتين وبرتقالتين
شمسين وقمرين
زيتونتين ولوزتين
نَرجستين وجوريتين
سأهمس همسًا يرج الكون
من أقصاه إلى أقصاه
على برق أتى يومًا
ومضى
على رعد زارنا يوم ميلادي
حمل أنفاسي الأولى
وذهب
على أم هاشم
قابلتي
على بقعة أرض في مخيمي
حملتني
امتَصْصتها
امتصَّتني
سأسير
لأحدِّث الخنافس والشرانق والشراغف
لأحدِّث الأشجار والأنهار والأحجار
عن كرم خلف كرم وخلف كرم
عن مخيم طول كرم
عن صخرة هناك
اسمها اسمي
واسمي اسمها
شكلها شكلي
شكلي شكلها
كتوءمين
وتوءمين

"23"
سأسير واقفًا
واقفًا سأسير
نحو قبرة في مقبرة
لا توسد الظل والطل والندى
ولأكون
وطنًا لوطني
وتربة خصبة لزيتونة
لا شرقية
ولا غربية
يكاد زيتها يضيء
لو لم تمسسه نار!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق